محمد العلائي
الاستقلال الوطني، بمدلولاته الحديثة المحمودة، هو شيء آخر تماماً غير العزلة والغُربة والتقوقع البليد خلف أبواب موصدة.
ذلك أن الحضارات الراقية وليدة الاستئناس والصحبة وتبادل المنافع والآداب والأفكار والصنائع والقيم بين الشعوب والمجتمعات.
كان طه حسين لا يرى في الاستقلال الوطني غاية تُطلَب لذاتها وإنما وسيلة إلى حياة أرقى وأكمل، فإن لم يكن الاستقلال كذلك فوجوده وعدمه سواء.
وفي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي صدر عام 1938م، يقول: "فنحن نعيش في عصرٍ من أخص ما يوصف به أن الحرية والاستقلال فيه ليسا غاية تقصد إليها الشعوب وتسعى إليها الأمم، وإنما هما وسيلة إلى أغراض أرقى منهما وأبقى، وأشمل فائدةً، وأعم نفعاً.
وقد كانت شعوب كثيرة من الناس في أقطارٍ كثيرة من الأرض تعيش حرة مستقلة، فلم تغنِ عنها الحرية شيئاً، ولم يجدِها الاستقلال نفعاً، ولم تعصمها الحرية والاستقلال من أن تعتدي عليها شعوب أخرى تتمتع بالحرية والاستقلال، ولكنها لا تكتفي بهما ولا تراهما غايتها القصوى، وإنما تضيف إليهما شيئاً آخر أو أشياء أخرى.
تضيف إليهما الحضارة التي تقوم على الثقافة والعلم، والقوة التي تنشأ عن الثقافة والعلم، والثروة التي تنتجها الثقافة والعلم. ولولا أن مصر قصَّرت طائعة أو كارهة في ذات الثقافة والعلم لما فقدت حريتها، ولما أضاعت استقلالها، ولما احتاجت إلى هذا الجهاد العنيف الشريف لتسترد الحرية وتستعيد الاستقلال".
يتابع طه حسين توضيح موقفه قائلاً: "ونحن نريد آخر الأمر أن نكون أحراراً في بلادنا، أحراراً بالقياس إلى الأجنبي بحيث لا يستطيع أن يظلمنا أو يبغي علينا، وأحراراً بالقياس إلى أنفسنا بحيث لا يستطيع بعضنا أن يظلم بعضاً أو يبغي على بعض".
وهكذا، فبينما كانت مصر تتجه حينها بالتدريج إلى الاستقلال الكامل من الوصاية الإنجليزية، فإن لسان حال طه حسين يقول بأن الاستقلال الوحيد الذي يستحق الاحتفال به هو الذي لا يعيد مصر إلى التخلف والعزلة على يد قوى محلية، وهو الذي لا يقف بين مصر وبين الأخذ بأسباب وعوامل الحضارة والحداثة الماثلة جسداً وروحاً في أوروبا والغرب على وجه العموم.
نفهم من هذا أن الاستقلال، وأي هدف آخر مهما علا شأنه، لا يُطلَب لذاته وإنما تشوّفٌ لحياة أفضل وأكرم، فإنّ من الاستقلال ما يُعزّ ويُسعِد، ومنه ما يُذل ويُشقي أكثر من الاستتباع.
ولو قُدّر لـ طه حسين تجربة العيش تحت سلطة كسلطة الإمامة الزيدية في شمال اليمن -والتي يمثل الحوثيون اليوم امتداداً لها- لاعتبر الوصاية الأجنبية أشرف وأنفع ألف مرة من استقلال وطني تمثله سلطة ظلامية جعلت من البلاد قبواً رهيباً تستوي فيه الحياة والموت.
كان هذا الكاتب والتنويري العظيم على دراية بأوضاع اليمن في ذلك الوقت، فهو الذي كتب عام 1933م "وليس في صنعاء مدرسة وليس فيها مطبعة، ومصدر ذلك -فيما يظهر- إشفاق أهل اليمن من الأجانب وإغلاقهم أبواب بلادهم في وجوه الأجانب من المسلمين والأوروبيين جميعاً.
ولكن الحضارة الحديثة المادية قد استقرت على سواحل اليمن ولا بد من أن تقتحم الأبواب المغلقة ولن تستطيع اليمن منذ الآن أن تقاوم هذه الحضارة"، (طه حسين، "الحياة الأدبية في جزيرة العرب"، مجلة الهلال، 1933م).
وأما اليمن المغلق بذريعة الخشية من الأجانب وفقاً لحديث طه حسين، فهو بلا شك يمن الإمامة.
والإمامة الزيدية حين تسود على رقعة من الأرض تحيلها إلى زنزانة أو قبر، وقد يحلو للدعاية الإمامية أن تسمِّي هذه الزنزانة أو القبر "استقلالاً" أو "سيادة" كما هو الحال في أيامنا هذه!
على أن للاستقلال الوطني في زماننا أبعاد متعددة: بُعد قانوني وبُعد سياسي وبُعد اقتصادي وبُعد ثقافي وأدبي.
لكن.. وكما أن الأفراد لا يتمتعون بالمستوى نفسه من الاستقلال، لأن إمكانية وظروف كل واحد منهم مختلفة عن الآخر، ولأن الحاجات والأمزجة بينهم مختلفة في النوع والمقدار، فكذلك الدول لا تتمتع بنفس الدرجة من الاستقلالية، والسبب تفاوتها في الخصائص والإمكانات والظروف والقدرات والحاجات.
هناك من يستعمل لفظي سيادة واستقلال بمعنى اصطلاحي واحد.
الحقيقة أن السيادة مفهوم مركَّب ومعقد وقد يشتمل في داخله على معنى الاستقلال.
الأخيرة كلمة تصف علاقة يكون فيها الداخل حراً في مقابل الخارج، فالاستقلال مبدأ موجه ضد الأجنبي.
أما السيادة -كما كان يتصورها هيجل وفلاسفة القرن التاسع عشر- فلها على الأقل وجهان، وجه داخلي ووجه خارجي:
⁃ الوجه الداخلي ويتحقق في شكل معيَّن من الوحدة، في الهدف وفي القيادة العليا، بين مختلف السلطات السياسية والقانونية النافذة داخل النطاق الجغرافي للدولة.
⁃ والوجه الخارجي يتمثل في امتلاك الدولة لقرارها في مواجهة الدول الأخرى، وهذا يُسمَّى الاستقلال. (فلسفة القانون والسياسة عند هيجل، عبد الرحمن بدوي، ص186).
وبالنتيجة فإن لفقدان السيادة وجهان:
وجه داخلي يعبر عن نفسه في شكل من الفوضى والتجزؤ وتنازع الشرعيات داخل إقليم الدولة،
ووجه خارجي يعبر عن نفسه في صورة غزو عسكري أو حصار أو غير ذلك من التدخلات السياسية والاقتصادية لفرض إرادة أجنبية.
يمكن قول الشيء نفسه عن الشرعية وحتى عن الوطنية، بمعنى أن لكلٍ منهما وجه داخلي ووجه خارجي.
في عالم اليوم قد يتوجب على الدول التخلي طوعاً عن بعض حقوقها السيادية لهيئات ومنظمات سيادية دولية، دون أن يعني ذلك فقدان سيادة.
ذلك أن السيادة، كالاستقلال كالشرعية والوطنية، أشكال ودرجات، وليس شرطاً وجودها مكتملة دفعة واحدة أو انعدامها دفعة واحدة، وإنما تتغير بين القوة والضعف، الزيادة والنقصان، تبعاً لعدد من العوامل والقوى والمؤثرات.
وبما أن رفض الوصاية الأجنبية بإلهام من الفكرة الوطنية القُطرية مسألة تعتمد على التمييز الواعي بين ذاتين منفصلتين: محلية داخلية "أصيلة" في مقابل ذات أجنبية خارجية "دخيلة"، فقد دأبَ الوطنيون في العصور الحديثة على تغذية مشاعر الغبن والضيم لدى الذات "الأصيلة" وذلك عبر تصويرها في علاقة خضوع مذل لـ الذات "الدخيلة" المهيمنة.
وإذا سلّّمنا بأن الاستقلال هو الوجه الخارجي من السيادة، فالحديث عنه يَفتَرِض سلفاً وجود "داخل" محسوم ومحدد وموحد يمكن التعرُّف على "الخارج" بالقياس إليه. في حين أن الداخل في الحالة اليمنية الراهنة "دواخل".. إنه ليس موحد إلا بالاسم. أما موضوعياً فهو منقسم سياسياً إلى أكثر من داخل في نطاقات جغرافية منفصلة.
ينتج عن تعدد وانقسام الداخل تعدد وانقسام في تصور وتحديد من هو الخارج العدو والخارج الصديق، فيغدو لكل داخل الخارج الذي يخصه.
والعلاقة بين قسم من أقسام الداخل علاقة حرب وقطيعة وغربة، وكل قسم من أقسام الداخل هو أجنبي بالنسبة إلى القسم الآخر.
إنّ تعدد السيادات في الداخل (وهو ما يسمى بـ التفكك السياسي للدولة) هو الوجه الداخلي لفقدان السيادة.
الأولوية في مثل هذه الحالة تتمثل في تحديد وتوحيد الداخل، بمعنى تحقيق الوجه الداخلي للسيادة الذي بغيابه يكون من العبث الحديث عن الوجه الخارجي للسيادة.
من وجهة نظر الفيلسوف الألماني كارل شميت، فهذه المهمة تضطلع بها الدولة: "الوظيفة الأساسية لدولة عادية تكمن أولاً في تحقيق سلام تام داخلها وعلى أراضيها، وضمان الهدوء والأمن والنظام وبذلك خلق "الحالة العادية" التي هي شرط فعالية المعايير الشرعية والقانونية، حيث أن كل معيار يفترض حالة عادية، وليس ثمة معيار يسري في حالة شاذة بالكامل بالنسبة إليه"، (كارل شميت، "مفهوم السياسي"، ص97 و98).
والدولة المحكومة أحسن حكم كما تخيلها سقراط "هي التي تدنو [في وحدتها] من حالة الإنسان الفرد، فإنه إذا جُرِحتْ إحدى الأصابع شعر الجسم كله بالألم لوحدة مركز الشعور، فيشارك الأعضاء جميعهم العضو المُصاب بالألم والحزن، فنقول إن هذا الإنسان مُصاب بأصبعه، وهكذا بالنظر إلى بقية أعضاء الجسم سواء من حيث الألم حين يكون العضو متألِّمًا، أو من حيث اللذة حين يكون مسروراً"، (أفلاطون، "الجمهورية"، الكتاب الخامس، [والحرف "س" اختصار لاسم المتحدث الرئيسي في المحاورة وهو سقراط).
ما يجدر بنا التذكير به هو أن "الوطن" و"السيادة" و"الاستقلال" و"الداخل" و"الخارج" ألفاظ قديمة في جذرها اللغوي لكنها تُستخدَم في العصور الحديثة بمعانٍ ومدلولات سياسية وقانونية ذات طابع علماني بمرجعية نظرية وتاريخية غربية.
وكأي جماعة دينية، ينتمي الحوثيون إلى ثقافة سياسية لا تحدد "الأجنبي" بما يقع خارج المجال الوطني (الجغرافي/ القُطري) وإنما تحدده بالمفاهيم الدينية الإيمانية على النمط الزيدي والشيعي عموماً.
فكرة "الهوية الإيمانية" التي يرفعونها كشعار تحدِّد الوطن بالعقيدة، وهي في حالتهم عقيدة مذهبية، بدلاً من تحديده بالأرض والتاريخ المشترك والحدود القانونية السيادية للدولة.
"الإيمان" مفهوم هوائي باطني لا حدود جغرافية له ولا معالم مادية. وفي حالة الحوثيين أيضاً، ليس إيمانك بالله أو بالنبي والقرآن هو ما يجعل منك مؤمناً، وإنما يجب أن تؤمن بحق آل البيت في الإمامة والولاية.
في دولة "الهوية الإيمانية" يحلّ "المؤمن" محل "المواطن".
وحين يكون البلد كبيراً ومتنوع دينياً ومذهبياً، كاليمن، فالمخالف في العقيدة والدين والمذهب يصبح لزوماً في حكم الفاقد لصفة المؤمن.
من ليس مؤمناً بهذا المعنى هو "أجنبي" حُكماً.
لم يقولوا حتى "الهوية الاسلامية"، فقد كان علم الكلام الإسلامي يميز بين "الاسلام" باعتباره انقياد ظاهر بالجوارح، و"الإيمان" باعتباره من أعمال الباطن ومقره القلب.
"الوطنية" من أعمال الظاهر لا الباطن.
إنها ما تفعله لا ما تنويه.
برهانها العمل النافع أو القول النافع، أو الاثنين معاً.
وبهذا المقياس تتفاضل الوطنيات.
تتحقق وطنيتك بمقدار ما تجلبه من الخير لبلدك وما تدفع عنه من شر.
الوطنية الصحيحة هي سياسة صحيحة، في التعامل مع الداخل والخارج. والسياسة الصحيحة تقاس بما تفضي إليه من منافع للصالح العام.
لقد اتخذت الوطنية اليمنية في العصر الحديث طابعاً مزدوجاً: موقف نضالي مناهض لنظام الإمامة الزيدية في الشمال، وموقف نضالي مناهض للاستعمار البريطاني في الجنوب.
ففي الشمال، قبل ثورة 26 سبتمبر، كان الوجه الداخلي للوطنية أكثر أهمية من الوجه الخارجي، وكان هدف الحركة الوطنية إحداث تغيير جوهري في النظام السياسي والاجتماعي الداخلي، يينما كان الوجه الخارجي للوطنية في جنوب اليمن أهمّ وذلك بسبب وجود المستعمر الأجنبي.
و "الحركة الوطنية" في اليمن المعاصر تسمية تطلق على اتجاه تاريخي واسع يغطي مسارين من النضال: (أولاً) نضال في الشمال اليمني ضد حكم الإمامة الزيدية. (ثانياً) نضال في جنوب اليمن ضد الوجود البريطاني وحلفائه من السلاطين والأمراء المحليين.
تشكلت النزعة التحررية في الشمال ضد حكم الإمام يحيى، لأن "وطنيته" كانت ذات بُعد واحد، مُستمدة بالدرجة الأولى من دوره في قيادة التمرد على العثمانيين في المرتفعات الشمالية، (رغم أن حروب التمرد تلك لم تكن السبب المباشر في جلاء العثمانيين بل هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى هي السبب).
في البداية، ولاعتبارات سياسية تكتيكية، اعترف الوطنيون الأوائل للإمام بهذا الدور، لكن سرعان ما وجدوا في انغلاقه وعزلته وتشدده في قمع دعوات الإصلاح والتحديث- أسباباً قوية لتأسيس اتجاه وطني مضاد يتسم بالانفتاح على الداخل والخارج في مقابل وطنية السلطة الإمامية الخانقة.
وقد تمكن الأحرار من تحريك الحوادث وتنظيمها في مسار تكويني وطني بلغ ذروته بإعلان الجمهورية في 26 سبتمبر 1962م.
ما نريد قوله هو أن السلطة -أي سلطة- إذا كانت تتصف بـ "الوطنية" في مسألة معينة، فهذا لا يعفيها أبداً من أن تكون "وطنية" في مسائل أخرى لا تقل أهمية.
وإن كان الوقوف ضد الأجنبي أصل من أصول الوطنية، فهو ليس الأصل الوحيد الذي تهون معه بقية الأصول.
ثم من قال أن العلاقة المُثلى بالخارج يجب أن تكون حربية عدائية!
الوطنية ذات الوجه الواحد ضررها أشد.
لنأخذ كمثال حركة طالبان الأفغانية الدينية المتشددة، فهي تمتلك "قصة وطنية" بطولية في مواجهة الغازي الأجنبي أقوى ألف مرة من قصة جماعة الحوثي:
بوسع طالبان مثلاً أن تفخر بأنها هزمت أمريكا وحلف الناتو الأقوى على وجه الأرض وأجبرتهما على الانسحاب وأطاحت بالحكومة الأفغانية الموالية للاحتلال الأجنبي وبسطت سيطرتها على كامل التراب الوطني من شرقه إلى غربه.
من منظور طالبان، هذا صحيح، لكن الشعب الأفغاني -المحب للحياة- من الصعب أن يرى في جماعة متطرفة كهذه منقذاً ورسول خلاص، بقدر ما يرى فيها عقاباً قاسياً ونازلة من النوازل القاصمة.
يشهد واقع اليمن حالياً على أن الحوثيين عقاب قاسي ونازلة من النوازل، مع أنهم يفتقرون إلى قصة "وطنية" كبيرة تضاهي قصة الحركة الأفغانية.
وحتى لو امتلكوا في المستقبل قصة بحجم قصة طالبان، ولا يبدو أنهم سيمتلكونها لاختلاف تركيبة اليمن وأفغانستان، فلن تغير من كونهم نازلة وبلية وعقاب، وذلك بالنظر إلى طبيعة الفكر والتكوين، وطبيعة الروح المحركة، وبالنظر إلى التجربة الحية على مدى سنوات.
وعليه، فليس هناك فرق على الإطلاق بين أن يبقى نفوذ الحوثيين في جزء من البلاد أو أن يمتد فيشمل البلاد كلها: فالنتيجة واحدة!
إن الوطنيات من النوع الديني المذهبي عفى عليها الزمن.
وفي اليمن على وجه الخصوص مفعولها تقسيمي تدميري، وهو ما نشاهده اليوم.
ولهذا نقول ونكرر أننا ننتَسِب إلى وطنية الأرض والتاريخ العريق والمصير الواحد.